سلسلة شذرات

متاهة الوعي بالذات بين الحقيقة و وهم التمثل

إنَّ الوعي بالذات يُعدّ الركيزة الأساسية لبناء الشخصية السوية والوصول إلى الثقة الحقيقية. ولكنه في الوقت ذاته، يضعنا أمام تحدٍ وجودي عميق، كيف لي أن أعرف يقينًا أن إدراكي لذاتي هو إدراك حقيقي وفاعل، وليس مجرد وهم مُنظَّر، أو تمثل باهت لأفكار ونظريات قرأتها؟

ونحن نعيش عصرًا تزدحم فيه المفاهيم النفسية والفلسفية، قد يسهل علينا الوقوع في فخ وهم التمثل؛ حيث نُقنع أنفسنا بأننا واعون لأننا نردد مفاهيم مثل نقاط القوة والقبول الذاتي. لكن إذا لم تترجم هذه المعرفة إلى فعل وسلوك ملموس يُغيّر طريقتنا في التفاعل مع العالم ومواجهة تحدياته، فإن الوعي يظل مجرد حبر على ورق.

الوعي الحقيقي ليس حالة تأملية سلبية، بل هو مشروع حياة يُقاس بثلاثة مؤشرات رئيسية: الاتساق، والمسؤولية، والقدرة على التغيير. وللوصول إلى قناعة بأننا فعلاً نعي ذواتنا، علينا أن نخضع هذا الشعور الداخلي للتحليل العلمي والفلسفي، لنميز بين الثقة المؤسسة على معرفة حقيقية، والغرور الذي يتغذى على إنكار النقص وتضخيم الأنا.
إنَّ معرفتك بنفسك هي أول خطوات الحكمة، ولكن اختبار هذه المعرفة هو أول خطوات الثقة.

الوعي بالذات بين المعرفة الحقيقية وتمثل الوهم

​سوف نقوم بتحليل الوعي بالذات كمدخل للثقة من منظور علمي فلسفي، مع التركيز على التمييز بين الوعي الذاتي الحقيقي و وهم التمثل بالنظريات دون تطبيق عملي.
إن التساؤل حول ما إذا كان إحساسك بالوعي الذاتي حقيقيًا أم مجرد وهم ناتج عن تبني نظريات هو تساؤل فلسفي وجودي بامتياز، ويضعنا في صميم تحدي التجربة الذاتية في مواجهة الواقع الموضوعي.

​المدخل الفلسفي (الوعي بين التأمل والفعل)

​فلسفيًا، يمكن النظر إلى الوعي الذاتي من منظورين رئيسيين. الأول هو الوعي التأملي (Cogito)، كما أشار إليه ديكارت في «أنا أفكر، إذًا أنا موجود» (Cogito). هذا النوع هو الوعي الباطني، أي الإدراك العقلي لوجود الذات ككيان مفكر ومدرك لأفكاره ومشاعره. وهذا هو الجزء الذي يمكن أن يكون عرضة لـ وهم التمثل، فالشخص قد يقرأ عن الـ “أنا” ويعتقد أنه أدركها بمجرد التفكير فيها أو ترديد المفاهيم الفلسفية والنفسية.
​أما المنظور الثاني فهو الوعي الفاعل (الوجودي)، والذي تطور في الفلسفات الوجودية (مثل سارتر و هايدغر)، ويرى أن الذات لا تُكتشف إلا من خلال الفعل و الاختيار والتعامل مع الوجود في العالم. وبالتالي فإن الوعي الحقيقي ليس حالة تأملية سلبية، بل هو مشروع يُبنى باستمرار من خلال أفعالك ومواقفك وتحملك لمسؤولية اختياراتك.
​للتمييز بين الحقيقة والوهم، يكمن الفرق في الفجوة بين القول والفعل. فإذا كنت تقول إنك واعٍ بنقاط ضعفك، لكنك لا تتخذ أي إجراء لتغيير سلوكك أو بيئتك، فهذا غالبًا ما يكون وهم التمثل. لأن الوعي الذاتي الحقيقي هو الوعي الذي يُحوّل المعرفة إلى سلوك.
​المدخل العلمي والنفسي (الوعي الذاتي كمهارة قابلة للقياس)
​علميًا ونفسيًا، لا يُعتبر الوعي الذاتي مفهومًا سحريًا، بل هو مجموعة من المهارات المعرفية القابلة للرصد والتطبيق، وينقسم إلى شقين أساسيين:
الوعي الذاتي الباطني : وهو وضوحك فيما يتعلق بقِيمك، وشغفك، وتطلعاتك، وملاءمة بيئتك الحالية لقيمك. وهذا هو مدى معرفتك بـ “من أنت حقًا”. ومؤشر التحقق منه هو: عندما تتخذ قرارًا صعبًا (مثل تغيير وظيفة أو الابتعاد عن علاقة)، فإذا كان هذا القرار متسقًا تمامًا مع قِيمك المعلنة، حتى لو كان مؤلمًا، فهذا يعني أن لديك وعيًا باطنيًا عاليًا ومطبقًا.
الوعي الذاتي الخارجي : وهو فهمك لـ كيف يراك الآخرون. هذا الوعي مهم جدًا لأنه يمثل المرآة الواقعية لسلوكك وتأثيره. الأشخاص الذين لديهم وعي ذاتي عالٍ لا يخشون تلقي الملاحظات من مصادر موثوقة. ومؤشر التحقق منه هو عندما يخبرك زميلك أو صديقك المقرب بصفة سلبية عنك، فإذا كانت ردة فعلك هي الاستماع والبحث الداخلي عن أدلة تؤكد أو تنفي صحة الملاحظة بدلًا من الإنكار الفوري، فهذا مؤشر قوي على وعي خارجي فعّال.

​الوعي بالذات كمدخل للثقة (الآلية العلمية)

​إن الثقة بالنفس ليست شعورًا عشوائيًا بالرضا، بل هي اعتقاد راسخ في قدرتك على مواجهة تحديات الحياة (وهو ما يُعرف علميًا بـ الكفاءة الذاتية). الوعي الذاتي يوفر الأساس المنطقي لهذه الثقة بالطريقة التالية:
​معرفة نقاط القوة تدعم الثقة بالنفس، حيث تمنحك أدوات واضحة تستطيع الاعتماد عليها لحل المشكلات، فتصبح الثقة مبنية على قدرات فعلية وليست مجرد أمنيات.
​معرفة نقاط الضعف (التطوير) تزيل عنك خطر المجهول، فعندما تدرك أين يكمن ضعفك، فإنك لا تخشى أن يتم كشفه، بل تُعد له خطة لتطويره أو للتعامل معه، وهذا يقلل من قلق الأداء.
​قبول الذات والتعاطف يمنحك القدرة على المسامحة عند الخطأ، إذ إن الإدراك بأن لديك جوانب للتحسين هو جزء من الطبيعة البشرية، مما يسمح لك بالمحاولة مرة أخرى دون أن يدمر الفشل ثقتك.

​تطبيق الوعي الذاتي
​لتحويل وهم التمثل إلى وعي فاعل، يقترح النشاط العملي التالي: اكتب ٣ نقاط قوة و٣ نقاط تحتاج إلى تطوير في شخصيتك.
النصيحة هي أن تجعلها محددة وسلوكية، فبدلًا من كتابة :”أنا طيب”، اكتب : “أنا أستمع بتركيز للآخرين حتى النهاية”.
​نقاط القوة:
​…
​…
​…
​نقاط تحتاج إلى تطوير:
​…
​…
​…
الفرق بين الغرور والثقة بالنفس

​إن الغرور والثقة بالنفس يشتركان في إظهار قوة الذات، لكنهما ينبعان من مصادر نفسية مختلفة تمامًا. يتمثل الفارق الجوهري بينهما في:
​المصدر الأساسي: مصدر الثقة بالنفس هو الوعي الذاتي الحقيقي القائم على الإنجاز والقدرة الفعلية وقبول النقص، بينما مصدر الغرور هو نقص داخلي عميق يتم التستر عليه بالتظاهر بالتفوق والكمال.
​التوجه: الثقة بالنفس توجهها داخلي وموجه نحو المهمة، مثل قول: “أنا أستطيع القيام بذلك”، أما الغرور فهو خارجي وموجه نحو الآخرين، مثل قول : “أنا أفضل منك/أنت لا تستطيع القيام بذلك”.
​التأثير على الآخرين: الثقة بالنفس تجذب الآخرين و تُمكّنهم، لأنها مبنية على احترام الذات واحترام الآخر، بينما الغرور ينفّر الآخرين و يُقلل من شأنهم، لأنه مبني على التعالي.
​الاستجابة للخطأ: الشخص الواثق من نفسه يكون مرنًا، فيقبل النقد ويعتبر الفشل فرصة للتعلم والتطور، بينما الشخص المغرور يكون دفاعيًا، فيلوم الآخرين أو الظروف ويسعى لتبرير نفسه بأي ثمن.

​إن الثقة بالنفس هي معرفة قيمة الذات، بينما الغرور هو المبالغة في تقدير الذات على حساب الآخرين.
إن الرحلة من الوعي بالذات إلى الثقة بالنفس هي أساس الفلسفة الإنسانية ذاتها، فهي مهارة نفسية و فن الوجود بصدق. إذ يمكن النظر إلى الثقة بالنفس كـإعلان داخلي، وليس كأداء خارجي، حيث يبلغ الإنسان مرحلة من القبول الراديكالي للذات. وهذا القبول هو اعتراف واعٍ بالذات كما هي بكل نقاط القوة المضيئة التي لا تحتاج إلى تضخيم، وبكل التحديات والمساحات التي تحتاج إلى نمو وتطوير، دون أن يعني ذلك نقصًا في القيمة الجوهرية.
​فالثقة الحقيقية، في عمقها الفلسفي، هي التصالح مع فكرة النقص الإنساني. الشخص الواثق هو الذي أدرك أن السعي للكمال المطلق هو وهم، وأن الحكمة تكمن في الكفاءة المدركة – أي المعرفة الدقيقة بما يستطيع فعله وما لا يستطيع. وهذا الإدراك يحرر الفرد من عبء المقارنة المستمرة بالآخرين أو من محاولة ارتداء قناع المُتعجرف الذي يسعى لإخفاء هشاشته. وهي حالة من الطمأنينة الوجودية حيث يصبح الفعل نابعًا من الرغبة في الإضافة والإنجاز، لا من الحاجة المُلحة للحصول على المصادقة الخارجية.
​إن الثقة بالنفس هي تجسيد لمقولة أرسطو عن “معرفة النفس” كخطوة أولى للحكمة. فالحكمة هنا لا تعني المعرفة النظرية فقط، بل تعني القدرة على اتخاذ قرار واثق يعكس قيم الفرد ومعتقداته، حتى في وجه الغموض وعدم اليقين. إنها الشجاعة الأخلاقية لأن تكون أنت، دون اعتذار أو استعلاء، مع إدراك عميق لمسؤوليتك تجاه نفسك وتجاه العالم المحيط. وفي نهاية المطاف، تكون الثقة بالنفس هي الوجود المتجذر؛ أن تكون راسخًا في حقيقتك لدرجة أن عواصف الشك الخارجي لا تستطيع اقتلاعك.

د. جواهر هبهم

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *